موقع طلبة جامعة البحرين

يمكنك تصفح الموقع كزائر ولكن ندعوك لتسجيل عضوية خاصة بك لتحصل على كافة الصلاحيات مثل تنزيل ملفات المكتبة وقراءة تعليقات هيئة التدريس وغيرها. يمكنك الحصول على عضوية مجانية بالضغط على زر تسجيل. إذا قمت بالتسجيل مسبقا فيمكنك الضغط على زر دخول.

تسجيل دخول

الصعود من حفرة الطين

تاريخ التسجيل
1 نوفمبر 2021
المشاركات
18
المجموعة
ذكر
الدفعة الدراسية
2021
الكلية
كلية الآداب
التخصص
أدب انجليزي
في قبرِ من الجلد و اللحم المُدَّعَمِ بالعظام و العضلات أعيش، أُبصرُ النورَ و لا أستطيعُ له وصولاً، أرى الحياةَ تجري بي و من خلالي فلا أتذوق منها إلا بقدر ما يستحمله هذا اللحم، أجري معها حيناً، فلا يكادُ يمضي الوقت إلا و هي تسبقني، و أبقى أُلاحقها خوفاً من أن تفوتني، غير أنه كلما ازدادت سرعتي، تمددت المسافة بيننا و توسعت، و لا يمضي الكثير حتى أدركُ أن الحياة فاتتني، و أني لم أعد أملك سوى أن أتابعها بناظِرَيْ و هي تمضي بعيداً، فأُسَلِّمَ أنفاسي الأخيرة بحسرة من لم يُعطَ الفُرصة للحياة.

يُحاصِرُني الموتُ مُنذ ميلادي، فكل لحظة تمرُ علي حياً، مضيئةُ كانت أم معتمة، في صحوٍ أو في نوم، استزدتُ منها أم فَرَّت هباءاً، هي لحظةٌ أُخرى أقتربُ فيها من معانقة الأرض ذلك العناق الأخير، الذي يتداخَلُ أثناءُهُ وجودي بوجودها، و يتشابَكُ فيها امتدادي، لأكونَ أنا الأرضُ التي تنتظر احتضان الآخرين لتتكرر العملية.

أبحث عن مصيرٍ آخر ينتشلني من هذه الدورة العابثة، و المصير البائس، أبحث عن معنى لحياتي التي لم أكد أعيشها، أسمع النداء من بعيد، غير أن أذني هي الأخرى مصنوعةٌ من الطين، أفتحُ عينيَ باحثا عن النور، فلا أرى غير التراب، أمد يدايَ لأجد جوهرة و سط التراب، و يستطيل لساني باحثا عن طعمِ آخر غير طعم التراب، و يبقى كذلك أنفي مدفوناً في نفس التُراب فلا يشُمُ غيره. تلك هي هباتُ الطين الخمسة، و هي نفسها ما يبقيني في سجني الترابي.

كيف أنتظر من الطين و التراب، من اللحم و العظام، أن يكونا معبري خارجهما، و هما السجن الذي أقفل أبوابه على روحي بعيداً عن النور، كيف لخشونة الحجر في تكوين الجبل أن يتعرف على سلاسة المياه إذا جرت في الجدول الذي يجري ليهب الحياة في جنة السهل؟ و هل للظلام أن يدلك على الطريق إلى النور في غير انحساره التدريجي و تهالكه تحت سطوة النور.

هكذا أُدرِكُ إن أدواتي التي أستخدمها يعتريها النقص، و يفترسها الخلل، إذ لا بدأن أربطها بشيء يتجاوز التراب و الطين حتى أستطيع تجاوزهما، و أمد نفسي بالقدرة على تمييز سواهما، إن حُدودَ التجربة و الحس مهما علت لا تستطيع الوصولَ إلا لما يُجَرَّب و يمكن الإحساسُ به، و مبتغاي يتجاوز هذه العوالم المحدودة بحثاً عن غير المحدود، فأي شيء آخر أملكه يتجاوز العالم المنظور إلى غير المنظور؟ أيها يستطيع النفاذ من ستار أسدلته طبيعتي الترابية، و محدودية هذا التكوين الجسدي ليصل حيث تعجز باقي الأدوات؟.
 
أحاول الخروج من صندوق المادة، من كل ذلك التراب الذي يعيقني و يمنعني من الرؤية، هناك (أنا عليا) أحس بها ، و هي غير الرأس، و غير هذا الكرش المنتفخ، هناك (أنا ) غير قبر اللحم هذا الذي أراه، أحس بهاو إن لم أرها، ، تتداخل معه و يتداخل معها حتى أكاد لا أميز أحدهما عن الآخر، و إلا كيف يمكن لقبضة من الطين، لكتلة لحم يتخللها العظم من أن تكون أنا، هناك شعلة من النار تحترق و هي التي تمد قبضة الطين بالحياة.

أنا لست طيناً، أنا لست لحماً، أنا لستُ كائناً عضوياً محكومٌ بتفاعلات كيميائية و عضوية. هناك شمسٌ تُشرق في داخلي فتبعث بالدفء و الحرارة في أعضائي و تمدها بطاقة الكيان الواحد الذي يشعر و يحتاج و يريد، ثم يحب ويشتاق، فيكره و يحقد. أنا المستيقظ الذي يتخلل هذا الجسد دون أن يختلط به، أتعلق به دون أن يسعني، أسيره ساعة و تسيرني احتياجاته و رغباته، فإن بحثت بهبات الطين الخمس لن أجد غير هذا الجسد الذي يسعها، و لكن إن شرعت باستخدام هبات هذه الأنا ولجت عوالما في داخلي لا تراب فيها و لا طين.

أحس بذلك الشيء في داخلي يتفتح و يرفع يديه متمطياً، تنتابني الرغبة بأن أرفع عيني الترابية إلى السماء باحثا عن الرب، لكني أرى بعيني الأخرى سماوات أقرب في نفسي و أكثر سعة، سماءٌ لا أحتاج أجنحةً لألجها، فهنا لا يوجد أعلى أو أسفل، لا يمين و لا شمال، هنا تلج السماء بسعة انفتاح عيناك.

تنتابني قشعريرة، و يملأني الخوف من جديد، كل هذا الذي أراه في داخلي، مجرات من الوعي إن أنا رميت نفسي فيها قد أضيعُ إلى الأبد في فضاء لا يحكمه قانون أعرفه، هنا قد لا يكون الموت هو ما يخيف، فإن ضعت في الفضاء الخارجي فما هي إلا سويعات قليلة قبل أن يداهمك الموت لسبب من الأسباب المادية المرتبطة بالجسد، أما هنا، فحتى الموت قد لا يكون خياراً، أن تضيع داخل نفسك، و يبقى جسدك الخارجي دون حاكم يحكمه، أن تكون غائبا في حضورك، لربما هو الجنون نفسه.

هكذا قررت أن ألج بهدوء، و أن أعد خرائطاً لهذا الوجود الجديد الذي أستشعره و أراه، باحثاً هذه المرة ليس عني، بل عن الشعلة التي لست أنا إلا قَبَسٌ منها، و لربما لست إلا شرارةً متناهيةً في الصغر.
 
بين العقل و القلب حكاية لا تنتهي فصولها، يتوق القلب و يرغب في الطيران، رغم عماه، فهو يرى ما لا يراه العقل، و يمد أذرعا هو لا يملكها رغبة في التمسك بسماوات بعيدة، يبني جسوراً مع آلهة شتى في صورة إله واحد. فيما يتمسك العقل بالبحث المهني متعلقا بحواسه و بمنطق تحليلي غير أنه عاجزٌ عن الوصول و الإيمان، فبحثه دائم و تفكيره متواصل. و لا علاقة للقلب هنا بتلك العضلة المهمة المسجونة بين قضبان القفص الصدري و التي تضخ الدم لكافة الأعضاء، كما لا علاقة للعقل بتلك الخلايا الكهربائية المخبئة في حصن جمجمة الرأس.

يقولون من حولي أن الإيمان بكل صوره عمل قلبي، شعوري، أن تؤمن هو أن تسلم قلبك الدفة، ليسير بسفينة القلب حيث يرى اليابسة، و يستشعر النور. أن تؤمن هو أن تحب و تعشق، و تخوض عباب البحر، و تقاتل في غمراته، ليس باحثا، انما قاصداَ جزيرة قد لا يؤمن بها العقل، و ما العقل في قبال القلب، العقل يفكر و يبحث، يطالع النظريات و الخرائط، يتفحص الأدلة و النقائض، دون أن يصل إلى أي مكان، و كيف يصل و هو دائم التوجس، كثير الحركة، لا يطمئن لمكان، ما إن يصل لشاطيء حتى يسارع بالمغادرة. بينما القلب الذي يشعر، يغادر المادة قاصدا شاطيء السكينة، و ما إن يصل حتى يستأنس المكان و يأنسه، يسكن المكان فيما المكان يسكنه. القلب هو بيت الرب، و هو وسيلة الخلاص

يقول آخرون أن القلب أعمى و لا علاقة له بالحقيقة، و إذا أردت الحقيقة فعليك أن تبحث عنها بين خلايا عقلك. العقل أيضا يبحث عن الرب، غير أنه لا يرضى بانعكاسٍ بوصفه رباً. يقولون أن رب القلب ليس سوى انعكاس لرغبته في الخلود، و لضعفه عن مجابهة ظلم الحياة. رب القلب ليس حقيقيا، هو الآخر كائن، غير أنه كائن خلقه الإنسان نفسه، خلقه الرجاء و الأمنيات، إن رب القلب كائن خرافي مليء بالتناقضات التي لا تنتهي، و هو خليط من منتهى القسوة مع منتهى الرقة، و هو القادر الذي لا يخلق إلا العجز. إن رب القلب ليس سوى شهوة من شهوات الحياة، يسكن القلب لأن القلب هو مكان الرجاء و الخوف، و أن الحقيقة هي وحدها ما يبحث عنه العقل.

بين هذا و ذاك أجد نفسي، ليس حياداً و وقوفا على التل بين متابرزين، بل إلتماساً لما يعجز كل طرف من الحصول عليه لوحده، فالقلب الذي يؤمن هو مكان سُكنى الرب، و العقل الذي يبحث هو الدليل و الطريق، و لا أرى إيمانا حقيقيا لا يجتمع فيه الإثنان. القلب هو محركي و دافعي بما فيه من حب و رجاء و خوف، و العقل دليلي بكل منطقه و تحليلاته، و لعلي أضيع في هذه الرحلة إذا ما أوقفت أحدهما عن المشاركة.
 
بفمٍ يملؤه التراب أرفع صوتي لِأُلقي ذلك السؤال القديم الذي لم يبارح عقل الإنسان و قد لا يبارحه أبداً، من أين أتيت؟ أبحثُ عن جذوري الأولى التي حملتني بين ذراتها عابرة خطوط الزمن و تبدلات المكان، لتُلقي بي هنا، لتلقي بي الآن. و رغم بساطة السؤال و سذاجته الظاهرية، إلا أنه يحمل كل ظلام الأسئلة الأخرى، و وحدها الإجابة عنه - في حال وجودها -باستطاعتها أن تُلقي كل الضوء على إجابات كل الأسئلة الأخرى.

أرى ضوءاً قادماً من السماء، رسائل تنتقل إلي خلال هذا الضوء، أنت لم تأتِ لوحدك، أنت لم تأتِ و إنما أوتي بك، أنت لم تكن هناك أصلا لتستطيع أن تأتي، أنت لم تكن قبل أن تعزف السماء سمفونيتها العظمى مكونة إياك، و ما ان يتوقف العزف، تعود لا شيء مرة أخرى.

ان هذا العالم الواسع الذي تراه ( و الذي لا تراه ) هو نتيجة إرادة أسمى، فعل يقوم على الإرادة، كن فكان، و ما ان تتوقف هذه الإرادة يتوقف كل شيء، أنت لست إلا مصباح صغير مربوط بسلك كهرباء، ليس ضوءك هذا إلا نتيجة سريان الكهرباء في هذه الأسلاك، أما قوة إنارتك، فذلك يرجع لقوة تحملك للطاقة السارية في التيار الكهربائي، كلما تحملت أكثر زاد اشتعالك و اضائتك.

و فيما أنا مشغول بالسماء، أحاول التقلب بين طبقاتها، و قد كنت غفلت عن الأرض التي ما زالت قدماي تضع كل ثقلي عليها، اقترب مني رجل غريب، و فيما هو يتفحصني شممت رائحة الحيوان في الجو، تلبدت السماء في وجهي، و أقفلت أبوابها بالغيوم، و سقطت من شاهقها لأعود إلى جسدي، جسدي الذي يأبى أن يفارق هذه الأرض و يتشبث بها تشبت الطفل بأمه في الزحام، بادرني بالسؤال، ماذا كان سؤالك قبل أن تغوص في عالم الأحلام ذاك، هل كنت تسأل من أين أتيت؟ قد كنت أسمعك من هناك، و أرى تقلبك قبل أن تبدأ في مناجاة نفسك، لقد خلقت لنفسك عالما أسمى، و رسمت بألوان الطيف أمنياتك الأكثر عمقا، خالطا بين الحقيقة و الخيال، غير عابيء بكل الحقائق التي أمامك، تبحث عن أصلك هناك في السماء، بينما كل الإجابات التي تبحث عنها تنتظرك هنا على هذه الأرض الكالحة، تمد رقبتك مخترقا الغيوم، بينما تغفل عن الحقيقة الهائلة التي يقدمها لك هذا التراب تحت رجليك، تبحث لنفسك عن دور بطولي لتلعبه، ابن السماء الذي يلقى به في الخراب فيعمره و يحوله إلى مستعمرة، هنا أنشأ الإبن البار مملكة ليحاكي بها مملكة الرب، و هنا حيث عمل المولى على نشر مشيئة مولاه، و أنشأ له عرشا يضاهي عرشه في السماء.

- من أنت؟
- أنا الحقيقة بعدما خلعت عنها أسمالها و تخففت لتقف أمامك عارية علَّ الضباب الذي ملأتَ به عينيك يعجز عن اخفائها فترى ما تتجنب الإعتراف به. و هو أن حقيقتك هنا على الأرض، و أن السماء مكان يوجد في رأسك فقط.

كان هذا هو ما يسمى بالإنسان الأول
 
كان يقف أمامي منتصبا، بجبهته العريضة، و وجهه كما جسمه يغطيه الشعر، ينظر لي بنظرة من يعرف أكثر من الجميع، و المفارقة هنا، أن هذا الإنسان، هو الأول، و يسمى بالإنسان المنتصب، كان من المفترض أن يكون الأكثر جهلا، فغالب ما وصل له علمه هو إشعال النار و صنع الفخار، هو حتى لم يتعلم أن يطبخ طعامه قبل أكله، و ها هو ينظر لي بنظرة العارف الذي يعلم كل ما يجهله الآخرون.

هل هذا هو الكائن الذي تحطمت عند رجليه كل الديانات السماوية؟ هو لم يكن حتى أنظف من القرد، و لو لا انتصابه التام الكامل دون مجهود واضح لظننته قردا.

فتح فمه و قال بلغة واضحة لا تشوبها شائبة: أنا كنت الأول، أنا و ليس آدمكم المزعوم، لست كائنا خلقت بكلمة، و انما أنا نتيجة تطورات متتالية حولتني لما تراني عليه الان، و حولتكم لما أنتم عليه الآن، لم تكن هناك كلمة، و لم يكن هناك ساحر عظيم حرك عصاه فأخرجني كما الأرنب من قبعته الطويلة. أنا و أنت لسنا إلا نتيجة الزمن، التغير المطرد لهذا الكون بكل مواده، طفرات متتالية هي ما أدت لوجودنا على هذه الأرض. إن ( كن ) الذي تركن إليها ليست سوى نتيجة أوهام عمرها ملايين السنين، حاجتنا لكيان أكبر و أقوى نعلق عليه آمالنا، حاجتنا لشماعة من النوع الفاخر، كيان يتجاوز ضعفنا و حاجتنا الدائمة التي لا تنتهي، بحثنا الدؤوب عن المعجزة هو ما أوقعنا فخلقنا ممالك سماوية لا وجود لها إلا في قلوبنا، هذا يحدث عندما تسلم قلبك القياد فيصبح العقل مجرد تابع له و خاضع لهلوساته التي أصبحت هوسا جماعيا.

كان يتكلم بكل الثقة، و لا أعلم كيف اكتسب لغتنا المعقدة، و هو الذي لو استطاع تكوين لغة ليتمكن من العيش في جماعات فلن تكون أكثر من لغة بدائية تتكون من حشرجات تتخللها بعض الإشارات، و لربما لن يكون قادرا على تكوين ما يتجاوز المقطع الصوتي الواحد. لكنه رغم ذلك كاد أن يقنعني لولا أن حانت مني التفاتة إلى جذع مشتعل كان يحمله معه.

كان السؤال الذي ملأني و استنفذ كل الإمكانيات العلمية التي أمتلكها حارقا، إذا كنا نحن لسنا سوى نتيجة تطور و طفرات طبيعية بحتة دون تدخل إلهي، فما الذي أشعل النار في دواخلنا. إذا كنا نحن التنور، فمن أين جاءت النار؟

إن الجواب المفضي لكوننا لسنا سوى عمليات كيميائية معقدة لهو أكثر الأجوبة حماقة، فالكيمياء و حتى الفيزياء و الرياضيات لا تخلق كياناً، لا تلد الحياة التي تتجاوز العضويات و تكون حقيقة النار التي تشتعل في تنوري. أنا أكثر من ذلك بكثير، هناك شيء خارج كل حساب المادة الخرقاء يكونني و يتحكم في ترابي و طيني، و هذا ما لا تستطيع نظرية علمية واحدة أن تصل إليه.
 
هناك حلم يعيش بداخلي، شيء يتجاوز هذا الجسد، هو ليس بمادة و لا يملك شيئا من خواص المواد، هو ليس بطاقة أيضا، فالطاقة محايدة، لا تدرك الأشياء و لا تبتغيها لنفسها، لا تحب و لا تكره، لا تتمنى و لا يمكن أن تنظر بعيون الشهوة و الغضب، هناك شيء آخر يمتلك زمام حفنة التراب التي هي أنا. هي بالتأكيد ليست من هذا العالم الذي أتعرفه بحواسي كي أصادفه و ألمسه و أعرضه لمختبر يقيس مدى كونه حقيقيا، لكني وهبت عقلا يدرك الفرق بينه وبين الباقي مني.

جزئي الترابي بكل شهواته و طاقاته لا يتجاوز معنى الغلاف، القشرة التي تغطي اللب، أما جزئي الآخر و هو الأنا الحقيقية لا تنتمي لهذا العالم، و تبحث دائما عن عوالم أخرى لربما كان أهمها و أقدمها من حيث البحث هو عالم السماء إن لم تنتمِ.له أصلا فهي بالتأكيد تنتمي له رغبة و تطلعا.

كيف يمكن أن أقتنع بأن هذا المحسوس هو كل الوجود، بينما جزء كبير مني يتجاوز ذلك المحسوس أنا أيضا لا يمكن اخضاعي لأنبوبة اختبار، لا يمكن قياس ردود أفعالي و البناء عليها.

يتشبث الإنسان بالحياة تشبث الوليد بأمه، ماذا عن كل أولئك الذين يفجرون أنفسهم بعملية جهادية و استشهادية، أو أولئك الذين سئموا الحياة و اختاروا مغادرتها لمختلف الأسباب؟ ماذا عن أولئك الذين يضحون بحياتهم من أجل أن يعطوا فرصة لآخرين بأن يحيوا؟ لا قياس. يختار الإنسان معاركه، و هو مدفوع برغبة الإنتصار فلا يمكن أن يدخل في معركة يعرف أنه مهزوم فيها. ماذا عن الذين يثورون غضبا و يدخلون معارك يعلمون مسبقا أن لا امكانية لفوزهم؟ هل تنقصهم غريزة حفظ الذات؟ الجواب هو كلا، هناك حسابات أخرى تحملهم على القيام بما يقومون به، لذلك وجد علم النفس الذي يحاول جاهدا التنبؤ بتصرفات البشر و أسباب أخذهم منحى معين، و هو ما يزال قاصرا جدا، إذ ببساطة لا يمكن قياس البشر و اخضاعهم لأداة قياس واحدة، ذلك المجهول المطمور بتراب الجسد يبقى عصيا دائما و أبدا.
 
تشرق الشمس شيئا فشيئا، فيتبدد الظلام الذي خلفه الليل تدريجيا، تبدو الأرض من بعيد و كأنها تقوم بإدارة الإنارة في كرويتها، فبينما يزحف النور على هذا الجانب و يتراجع الظلام، يحدث العكس تماما في الجهة المقابلة حيث جنود الليل هي من تتقدم و يتراجع الضياء في رقصة دائمة، لا حدث يومي، مسرحية عظمى لم يكتبها شكسبير، فصل واحد تجري أحداثه على مسرح ضخم، و عليك كمشاهد أن لا يستحوذ جزء من المسرح على انتباهك و إلا ضاعت الرقصة و لم ترَ منها شيئا، هكذا هي الحياة، تلك الرقصة التي يشارك فيها كل الكائنات دون أدنى فكرة عن الصورة الكلية للمسرح و كيف يساهم كل دور بغض النظر عن مركزيته على المسرح في تلك الرقصة الهائلة.

هناك دماء تصبغ أرضية المسرح، ألم هنا، دموع، فقد، أدوار تنتهي، أدوار أخرى تدخل المسرح، و كل هذا دون أن يتوقف الرقص، الستار هنا لا يمكن أن يسدل، المأساة هي مجرد مشهد من مشاهد هذا الفصل.

كيف يسمح المخرج بكل هذا؟
من هو مؤلف هذه المسرحية؟
لماذا لم يتدخل المنتج ليوقف هذه المهزلة؟

لا شيء يتوقف هنا، أدواركم ليست مكتوبة سلفا، لا يتحكم هنا بالنص غير المسرح و الممثلين معا، و لأن العدد هائل و المشاهد كثيرة يتضاءل دور الفرد و تتضائل معه قدرته في تغيير أحداث المسرحية، و حتى دوره يغيره بقدر ما تسمح باقي المشاهد و الرقصات الجزئية، و ذلك بقدر قوته.

- ماذا يحدث لو اختفى الليل من هذا الجزء من المسرح؟

- سيختفي النهار من الجزأ الآخر، و سيبقى الليل متحكما حتى تعود الحركة الطبيعية لالليل و النهار.

- إذن لا توجد حتمية؟

- الحتمية تفرضها طبيعتنا المختلفة و إرادتنا الحرة، حتمية مخالفة لمبدأ الجبر الإداري، لكنها مفروضة بسبب عدم وجوده.

- إذن لا مدير لهذا المسرح؟

- كيف وجد إذن؟ من أين جاء الممثلون؟ كيف ما يزالون يؤدون أدوارهم؟ عندما أعطي الممثلون الحرية في أداء أدوارهم بدأت تتشكل أبعاد المسرح و مع كل أدوار جديدة تزداد قوة المسرح، حتى أصبحت الخطوط العامة لكل دور مرسومة سلفا، و إن كان صاحب الدور هو وحده من يتحكم في التفاصيل. من هنا ولدت الحتمية.

الخير و الشر موجودان غير أن تفاصيلهما غير ثابتة، فما يبدأ خيرا قد ينتهي لشر، و ما يبدأ شرا لن ينتهي بالضرورة كشر.

- و ما دوري كممثل على هذا المسرح؟

- أن تواصل الرقص حاول فرض إيقاعك قدر الإمكان، مهمتك الأولى هي محاولة فرض إيقاعك، و كل ما كان إيقاعك ( الخير ) أكثر تأثيرا على من حولك و ساهم في تغيير المشهد كلما سطع نجمك أكثر.

- و هل تظن أنه في يوم سأتمكن من أن أغير إيقاع الرقصة للمسرح كله؟

- حتى الأنبياء عجزوا عن ذلك.
 
أسمع ضجيجا يخترق حاجز الصمت هنا، لا أكاد أميز الكلام لتداخله كل الموجودين في فسحةِ هذه القصة يتكلمون في وقتٍ واحدٍ معا، لربما كل متكلم يتكلم بالحقيقة، غير أن الحقائق لما تتداخل تتحول لجسد غير محدد المعالم.

هذا داروين يحاول شرح النظرية التي قامت على كتفيه، مشاهداته، ملاحظاته، تسجيلاته، و تحليلاته التي عمل عليها سنين طويلة حتى بدأت تأخذ شكل النظرية/ الحقيقة، و كيف طورت بعده،

و هناك، في تلك الزاوية، يجلس فرويد، يحاول أن يقنع الحاضرين بما يسمى عقدة أوديب، و كيف أن لها أثر ليس باليسير في التربية حتى لو لم تصل لمستوى العقدة بعد، غير أن الحاضرين كان كل منهم مشغول باقناع الآخرين بشيء اخر.

آينشتاين و نظريته النسبية، كوبرنيكوس كان يتشاجر مع غليليو غاليل بأمر من منهما نزع الستار عن عدم مركزية الأرض، سجال آخر بين امرأة و رجل لا أستطيع تعرفهما يدعي كل منهما أنه الأصل، هذا غير جمع من الفلاسفة و الكتاب اعتلى كل منهم قطعة أثاث متهالكة و راح كل منهم يخطب.

و فيما أنا أحاول أن أفصل بين الكلمات التي بدأت هي الأخرى تتشاجر، في محاولة لأن أفهم و أحلل كل خطاب لوحده، سمعت ضحكات ذلك الشيء الذي ليس من هذا العالم داخل جسدي، قبس النار التي يملؤني، كان يضحك على محاولاتي.

- اترك عنك الضحك و تعال ساعدني.

- و لماذا؟ كل ما يقولونه يتحطم عند أعتاب وجودي، حقائقهم جميلة، غير أنها لا تتعدى ذلك العالم الذي تعيش فيه، و انا بوجودي فقط أثبت وجود عوالم أخرى لا يحلموا بأن يفهموها. أنا مقتل كل نظرياتهم و تحليلاتهم، و إذا ما حاولوا الإمساك بي و وضعي في أنبوبة اختبار، فلن يجدوا في تلك الأنبوبة سوى بقايا ضحكاتي تنساب من تلك الأنبوبة.

هناك عالم آخر
و ذلك مما لا ريب فيه.
 
أتقلب على هذه الأرض فيما تتجول عيناي في السماء أسمع ندائها الدائم لي تطلب مني العودة فأكاد أخلع هذا الجسد ملبيا نداءها. أحلم أحيانا بأن أجنحة تنبت من ظهري، و لا تكاد تكتمل حينما أبدأ في بسطها استعدادا للتحليق، أريد العودة لوطني، لحقيقتي، و لكني لا ألبث حتى أستيقظ على حقيقة هذا الثقل الذي يربطني على هذه الأرض، فألعن هذا الجسد الذي يضيق علي حتى أكاد أختنق تحت كل هذا اللحم.

مالذي أفعله على هذه الأرض؟ أي قدر لعين وضعني هنا، و لم لا ترفعني الريح إلى حيث أنتمي؟ هل أنا طريد من السماء بسبب أكوام اللحم التي أحملها معي؟ أو لربما تكون أكوام اللحم هي عقابي و لعنتي التي لا أنفك ملازما لها؟ هل سقطت يوما من السماء و عجزت عن العودة، أم هي التي لفظتني كي أعيش منبوذا على هذه الأرض التي تملؤ جناحاي بالتراب،

تتقاذفني الفصول هنا، و ما أزال أنظر للسماء بأعين التوق، غير أن فكرة مخيفة قفزت في رأسي، انك لن تستطيع الوصول للسماء حتى تقهر حاجز الجسد، و قهر حاجز الجسد ليس بالتخلص منه، بل بالغوص في الأرض أكثر و أكثر، اعتنق حياتك على هذه الأرض، باركها بجهودك، أقم هاهنا مملكتك لا مملكة الرب، كن أنت النواة التي تدفن في الأرض، فإذا بها تشق سطح الأرض برعما، و فيما تمر عليها الفصول تتسامق ارتفاعا و كلما اشتد جذعها كلما زاد فيها طولا حتى تعانق السماء.

أنا لست طريد السماء على الأرض، و هذا اللحم ليس ثقلا يحبسني، لست روحا محبوسة في جسد، كما لست جسدا متعلقا بروح، أنا ابن الاثنين، أبي السماء و أمي الأرض، و ما بينهما هو عالمي الذي أعيش فيه، أنا حلقة الوصل بين عالمين و هكذا علي أن أعيش، لو ارتبطت بكلي للسماء أضعت كلي، و لو ارتبطت بكلي للأرض أضعت كلي، فيما يرتبط جسمي بالأرض، و روحي بالسماء، أنا هنا حيث أنتمي.
 
اليوم خرجت من حفرة الطين، لبثت فيها طويلا حتى تصورت أنني لن أخرج منها أبدا، و لن أجد الطريق إلى السطح، تخلصت من لوم الجسد و لعن الروح، أصبحت شجرة و فيما تمكث جذوري عميقا في الأرض يتسامق جذعي، و تمتد أغصاني و كأنها تحتضن السماء و تودع فيها أوراقها.

لو أنني ركنت إلى الروح لتعفن الجسد، و لو أنني ركنت للجسد لأسنت الروح، و لأنني خليط بينهما فسأحتضن حقيقتهما و هذا كمالي الخاص و حقيقتي التي لا مهرب منها.

انتهى
 
عودة
أعلى أسفل